القاهرة: صناعة.

اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني .. هذا القول المأثور المتداول في مصر، على الرغم من أنه يستخدم لوصف الإتقان والمهارة في أي عمل، إلا أنه يجد صدى خاصاً عندما نتحدث عن تاريخ صناعة الحلويات والسكريات في البلاد. لطالما كان المصريون مرتبطين بفنون التذوق والتحلية، ومن هذا الأساس انطلقت رحلة الشوكولاتة التي شهدت تحولاً كبيراً من استيراد فاخر إلى صناعة وطنية تنافس عالمياً.

1. 📜 الجذور التاريخية والحلواني القديم

لم تكن الشوكولاتة (بشكلها الحديث) موجودة في مصر قديماً، لكن الحلواني كان لاعباً أساسياً. كانت ورش الحلويات تُركز على السكاكر الشرقية مثل الملبّن، والحلاوة الطحينية، والقُطر، والحلويات الشامية.

    الانطلاقة الحديثة: ظهرت الشوكولاتة المستوردة كسلعة فاخرة في أوائل القرن العشرين. وكانت محلات قليلة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية تستوردها من أوروبا.

    الريادة الوطنية: شهدت فترة منتصف القرن العشرين تأسيس بعض الأسماء الوطنية الرائدة التي حاولت "توطين" صناعة الشوكولاتة والحلويات الغربية، مستندة إلى خبرة الحلواني المصري في التعامل مع السكر والدهون والنكهات. هذه الشركات لعبت دوراً محورياً في تعريف المستهلك المصري على مذاق الشوكولاتة المصنعة محلياً بجودة مقبولة.

2. 🏭 نقطة التحول: دخول العمالقة والاستثمار الأجنبي

شهدت العقود الأخيرة تحولاً جذرياً في الصناعة، مدفوعاً بتحرير الأسواق ودخول الشركات العالمية التي نقلت الصناعة من النطاق المحلي إلى النطاق الإقليمي.

2.1. 🌍 رسوخ العمالقة العالمية ودلالات التحول الإقليمي

لم يقتصر التطور على الشركات الوطنية، بل شهدت مصر في العقود الأخيرة استقطاباً لعمالقة صناعة الشوكولاتة العالمية. إن تأسيس هذه الشركات لقواعد إنتاج متكاملة في مصر له دلالات اقتصادية وصناعية عميقة، ومن أبرزها:

    النموذج الأبرز: شركة مارس (Mars Incorporated): تعتبر "مارس إيجيبت"، التي تملك مصنعاً ضخماً في مدينة السادس من أكتوبر، مثالاً رئيسياً. لم يعد المصنع مجرد نقطة لتلبية الطلب المحلي، بل تحول إلى مركز إنتاج وتصدير إقليمي، حيث يقوم بتصدير منتجاته (الشوكولاتة والحلويات) لأكثر من 40 دولة في المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا). وقد تعزز هذا الدور مؤخراً بالإعلان عن استثمارات هائلة لتوسعة المصنع، بهدف تحويل مصر إلى قوة بارزة ومركز إقليمي لتصنيع الشوكولاتة والحلويات في المنطقة.

    الاهتمام بالمواد الخام: باري كاليبو (Barry Callebaut): كما أن هناك اهتماماً من شركات متخصصة في المواد الخام مثل "باري كاليبو"، أكبر مورد للكاكاو ومنتجات الشوكولاتة في العالم، بالسعي لإقامة مشاريع تصنيعية في مصر. هذا يدل على أن مصر لا تُرَى فقط كسوق استهلاكي، بل كـ منصة لوجستية وصناعية لإنتاج المكونات الأساسية.

دلالات هذا التوطين الصناعي (The Significance):

    اعتراف بالجودة والموقع: يؤكد استثمار الشركات العالمية ثقتها في البيئة الاستثمارية المصرية، وتوفر العمالة، والأهم، الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يسهل الوصول إلى أسواق التصدير الرئيسية في أفريقيا والشرق الأوسط.

    نقل التكنولوجيا والمعرفة: يضمن إنشاء المصانع العالمية تطبيق أحدث معايير السلامة والجودة العالمية (GMP)، ونقل خبرات التصنيع والتغليف الحديثة إلى السوق المصري، مما يرفع من مستوى المنافسة للشركات المحلية ويجعلها تعمل وفقاً للمعايير العالمية.

    تعزيز الميزان التجاري: تحويل مصر إلى مركز إقليمي للتصدير يساهم بشكل كبير في زيادة حصيلة الصادرات بالعملات الأجنبية، ويدعم الاقتصاد الوطني.

3. 🎯 التحديات الحالية والتوجهات المستقبلية

تواجه صناعة الشوكولاتة في مصر مجموعة من التحديات التي تشكل مسار تطورها المستقبلي:

تكلفة المواد الخام:  الارتفاع المستمر في أسعار الكاكاو عالمياً (كونه مادة مستوردة بالكامل)، مما يضغط على هوامش الربح.
التنافسية السعرية: التنافس القوي بين المنتجات المحلية والمنتجات المستوردة، خاصة في فئة الشوكولاتة الاقتصادية.
التوجه نحو الصحة:  تزايد وعي المستهلك بالصحة يدفع الشركات لإنتاج شوكولاتة أقل سُكراً، وأعلى في نسبة الكاكاو، أو خالية من السكر (الدايت)، وهو ما يتطلب استثماراً في البحث والتطوير.

💡 التوجه المختلف: الشوكولاتة الحرفية (Artisanal Chocolate)

أحدث التطورات، والأكثر اختلافاً، هو ظهور ورش عمل صغيرة ومتخصصة في صناعة الشوكولاتة الحرفية أو Bean-to-Bar (من الحبة إلى اللوح). هذا التوجه، وإن كان صغيراً في الحجم، يعكس نضج السوق المصري وقدرته على استيعاب المنتجات الفاخرة، ومحاولة العودة إلى إتقان الحلواني الأصيل ولكن بأدوات وتقنيات عصرية في صناعة الشوكولاتة.