تُعد الآثار شواهد خالدة على الحضارات الغابرة وإرثاً لا يُقدَّر بثمن للأجيال القادمة. ورغم الجهود العالمية لحماية هذا التراث، تبرز ظاهرة سلبية متنامية تهدد سلامة هذه الكنوز الحجرية والمعدنية: لمس الآثار من قبل الزوار. هذه العادة، التي قد تبدو بريئة للوهلة الأولى، هي في الواقع "آفة صامتة" تتسبب في أضرار تراكمية لا رجعة فيها على المدى الطويل.
تأثير "اللمسة البشرية" المدمر
إن الاعتقاد بأن لمسة خفيفة لا يمكن أن تضر تمثالاً ضخماً أو جدارية قديمة هو اعتقاد خاطئ علمياً. فالأيدي البشرية، حتى النظيفة منها، تحمل مزيجاً من المواد العضوية والكيميائية التي تشكل تهديداً مباشراً للمواد الأثرية:
الزيوت والأحماض الدهنية: تفرز الغدد الدهنية في جلد الإنسان زيوتًا وأحماضًا دهنية. عند ملامسة الأثر، تنتقل هذه المواد وتترسب على السطح، مما يخلق بيئة لزجة تجذب الغبار والأوساخ وتثبتها بإحكام.
تغير لون الأثر (التلطيخ): مع تكرار اللمس، تتفاعل هذه الزيوت والأملاح مع المكونات الكيميائية للمادة الأثرية (كالرخام، أو الحجر الجيري، أو الأصباغ)، مسببة تلطيخاً وتغييراً في اللون يصعب إزالته، وهذا يقلل من القيمة الجمالية والتاريخية للقطعة.
الرطوبة والأملاح: تحمل الأيدي رطوبة وأملاحاً بسيطة (ككلوريد الصوديوم). هذه المواد تتغلغل في مسام المواد المسامية كالخزف والأحجار، وتؤدي إلى تسريع عمليات التآكل والتشقق، خاصةً عند تعرض الأثر لتغيرات في درجات الحرارة.
التآكل الميكانيكي: اللمس المتكرر والمحتك لآلاف الزوار على مر السنين يؤدي إلى تآكل ميكانيكي ملحوظ، يزيل طبقات دقيقة من سطح الأثر ويغير ملامحه الأصلية (ظاهرة "التنعيم" أو "التمليس" على زوايا التماثيل والأعمدة).
تحديات الحماية وجهود الترميم المستمرة
تُشكل ظاهرة لمس الآثار تحدياً مستمراً لخبراء الترميم والمتاحف حول العالم. فبدلاً من التركيز على الترميم الدوري، يضطر الخبراء إلى تخصيص موارد ضخمة لإزالة "البصمات" والزيوت المتراكمة، وهي عملية مكلفة وقد تتسبب في إجهاد المادة الأثرية نفسها.
إجراءات الحد من الظاهرة:
الحواجز الذكية: استخدام الحواجز الزجاجية غير العاكسة، أو الحبال، أو الحواجز الإضاءة الخفية التي تمنع الوصول المباشر دون حجب الرؤية الجمالية.
التوعية المستمرة: تكثيف اللوحات الإرشادية والملصقات الواضحة، واستخدام تقنيات العرض التفاعلي التي تتيح للزوار تجربة "لمس" نماذج طبق الأصل (Replicas) مصنوعة خصيصاً للمس.
إشراف المراقبين: تعزيز وجود المراقبين والموظفين في المناطق الحساسة للتنبيه الفوري على الزوار ومنعهم من الملامسة.
الواقع الافتراضي: توظيف تقنيات الواقع الافتراضي (VR) لتقديم تجربة غامرة تتيح للزائر استكشاف تفاصيل الأثر عن قرب دون أي اتصال مادي فعلي.
نداء للحفاظ على الإرث
إن حماية الآثار ليست مسؤولية المؤسسات الحكومية أو المتاحف وحدها، بل هي واجب أخلاقي يقع على عاتق كل زائر. فكل لمسة غير ضرورية هي بمثابة محو لجزء صغير من القصة التاريخية التي يحكيها الأثر. يجب أن يُنظر إلى الآثار باحترام وتقدير، مع إدراك أن المسافة البسيطة بين اليد والقطعة الأثرية هي ما يفصل بين الحفظ على مدى قرون والضرر الذي قد يحدث في ثوانٍ.
🌟 أمثلة عالمية على تضرر الآثار بسبب اللمس
1. تمثال جولييت - فيرونا، إيطاليا
يُعد تمثال جولييت البرونزي رمزاً للحب، ولكنه أصبح مثالاً حياً على التآكل الناجم عن العاطفة البشرية. فتقليد لمس التمثال، وخاصة الثدي الأيمن، لجلب الحظ في الحب، أدى إلى تآكل وتلميع موضعي شديد. يكمن الخطر في أن اللمس المتكرر أزال الطبقة النحاسية الواقية (الزنجار) عن السطح، مما عرّض المادة الأصلية للتآكل الميكانيكي والكيماوي، وغيّر مظهر التمثال بشكل لا يمكن إصلاحه دون ترميم جذري.
2. قدم تمثال القديس بطرس - الفاتيكان، إيطاليا
في قلب الفاتيكان، يُظهر تمثال القديس بطرس البرونزي دليلاً تاريخياً على قوة الطقوس البشرية في تدمير المواد الأثرية. يعتاد الزوار على مر القرون على لمس وتقبيل قدم التمثال التماساً للبركة. أدت هذه الطقوس إلى تآكل ميكانيكي حاد، حيث فُقد جزء كبير من أصابع قدم التمثال تقريبًا، وأصبح سطحها أملس تماماً بفعل الاحتكاك البشري المتراكم، مما غيّر الملامح الأصلية للقطعة بشكل دائم.
3. لوحات كهف التاميرا - إسبانيا (الجداريات)
على الرغم من أن لوحات كهف التاميرا تعد مثالاً للتلوث غير المباشر باللمس، إلا أن مصدر التهديد ظل بشرياً. دخول الزوار إلى الكهف وتواجدهم بالقرب من الجداريات القديمة رفع من مستويات الرطوبة وثاني أكسيد الكربون الناتج عن التنفس البشري. هذا التغير في البيئة الدقيقة للكهف شجع على النمو الفطري وتلوث الأصباغ العضوية التي استخدمها فنانو عصور ما قبل التاريخ، مما أدى في النهاية إلى إغلاق الكهف لفترات طويلة لحمايتها.
4. كتابات المقابر والجداريات المصرية القديمة
تعاني العديد من المقابر والمعابد المفتوحة في مصر من ظاهرة "التلطيخ". اللمس العَرَضي أو المتعمد للجداريات الحجرية والمنقوشات يؤدي إلى ترسب الزيوت والأملاح البشرية عليها. هذه المواد تخلق طبقة لزجة تلتصق بها الأوساخ والغبار، مما يُغير لون النقوش والأصباغ الأصلية، ويظهر على شكل بقع داكنة ولامعة عند الحواف التي يسهل على الزوار ملامستها.
5. حجر بلارني - أيرلندا (Blarney Stone)
يعد حجر بلارني مثالاً على التلوث البيولوجي الناتج عن اللمس. التقليد الأيرلندي يتطلب من الزوار الانحناء وتقبيل الحجر لاكتساب "موهبة الكلام". هذا الطقس يسبب تلوثاً بيولوجياً وتراكماً للزيوت واللعاب ومستحضرات التجميل على سطح الحجر، مما يزيد من صعوبة الحفظ والصيانة، ويجعل التنظيف والتعقيم عمليات ضرورية ومستمرة للحفاظ على الحجر من التدهور البيولوجي والكيميائي.
تاريخ الإضافة: 2025-11-14تعليق: 0عدد المشاهدات :101