
كنت في مرحلة لا أدرك أنني سأحمل حقيبتي فيما بعد وأرحل، فجهزت نفسي لأعيش من جديد! أمسكت الفرشاة وتناولت الألوان وخططت بحرية على اللوحة ما أريد، وبذلك دائماً أشعر بأنني ولدت من جديد.
أحب أن أتعامل مع اللوحة بلا تقيدٍ ولا فواصل.. لا أنتمي إلى مدرسةٍ أو تيار، ونادراً ما استعمل غير اللونين الأسود والأبيض، فدائماً هما لوحتي، بل كل لوحاتي هي كذلك أبيض وأسود، لأن كليهما يبرز بجانب الآخر بلا زيف أو رياء.. وأحياناً ألجأ للرمز، وذلك عندما أشعر أن في رأسي شرطياً، أو عندما تكون اللوحة مقالاً أو منشوراً سياسياً.
أشعر بصعوبة بالغة في البداية.. من أين؟ صبغت اللوحة باللون الأسود.. صوت المذياع يطلق أغنية حنين فيروزية، أشاعت الفرح لبرهة في نفسي.. وضعت في وسط السواد نقطة بيضاء. تراءى لي وجه إنسان غير محدد.. دفقة إلهية.. بدأ يتضح أكثر، أنه وجه امرأة حامل بلا دنس، عيناها كعيون صبايا الأساطير.. زادت البقعة البيضاء اتساعاً وسط السواد الذي مازال غالباً.
شعرت برغبة مكبوتة.. تطالعني ابتسامة مفاجئة، ما أعذب لحظات هذا القلق، قليل من الأزرق في أعلى اللوحة، أحسست برغبة فاضحة في التوبة.. يخالجني «مشروع توبة» ولكن قلبي المشتاق لا يتوب عن الحنين.. بقعة خضراء بجانب اللون الأبيض، طفرت دمعة من عين صبية وفية، زادت البقعة اصفراراً.. غطت قليلاً على اللون الأخضر، مسحت دمعتها باللون الأحمر، صرخت الصبية كيف الخلاص.. ومتى يجئ؟ يتجه إليها رجل بلا طفولة.. أزرق وأسود، وعبثاً يذهب ويذوب كحفنة ملح ترميها في قاع النهر..
جيل لم يعرف من الطفولة إلا الموت.. أسود.. أسود، يعود الرجل مرة أخرى .. أحمر، الفتاة تحاول الاحتماء به، يهرب منها.. يختفي يتخلى عن عنفوانه الأسطوري الجبارّ وضعت اللون الرمادي بدون تركيز.. جنين يحاول الخروج بمجهود ذاتي.. من رحم مقدس مغتصب منذ قليل.. أخضر.. أحمر.. أصفر.. أحمر بكمية أكثر.. يبدو وكأنه طائر خرافي أسطوري – أبيض وأزرق، لطخت اللوحة بهما.. يتحول الجنين لزلزال وليل غاضبٍ يبرق ويرعد.. غبارٌ يتصاعد وقبر يفتح ويعلو صوتٌ كصراخ القبور.
غمرتني الفرحة، بدأت أمزج الألوان.. الألوان أصبحت كثيرة ومتداخلة.. خطوط مستقيمة ومثلثات.. مربعاتٌ وأشكالٌ لا تقع تحت قياس هندسي، الجنين يحطم كل الأشياء، يخرج منه لهب، أحمر.. برزت جياد تطارده.. جياد كثيرة.. بني، اللون البني لأول مرة في اللوحة.. يحاصرونه، أسود.. زاد الأسود وعاد ليسيطر على اللوحة، رائحة الموت والمجدُ والخلود.. أخضر ولكنه يقاوم.. تمكنوا منه سحلوه.. بعض الرمادي فوق الأسود، قتلوه قتلاً بطيئاً.. سواد.. سواد.
بدأ الجنين يعود مرة أخرى للحياة.. ألوانٌ وأحلامٌ تتموج بلا نهاية، رأيت في عينيه رجاء العبور إلى الضفة الأخرى، حيث يتم الانتصار على الألم والبؤس والقهر والأحلام الممكنة. دارت مرة أخرى حربٌ بين الجنين والجياد.. الأرض مستباحة والخيانات واضحةٌ، يأتونه من كل اتجاه، مزجت عدة ألوان أصبحت لوناً كريهاً قاتماً لم ألفه من قبل.. بدأت اللوحة تبرز تمزق الإنسان في لحظة اصطدام المحدود باللانهائي، أحسست باحتراقٍ ممتعٍ وعشقٍ محموم.
خطرت لي خواطر شتى ودار في أعماقي حوارُ حائرٌ.. لابد أن تنتهي اللوحة في هذه اللحظة، أسقط الجنين مرة أخرى، لم أضع لوناً انتظرت نهوضه مرةٌ ثانية كما عودني، غمست الفرشاة باللون الأبيض.. طال انتظاري.. مزجته باللون الأحمر.. لم يقم، صرخت.. قف مكانك في عرش الفضاء وليسقط المكان والزمان من حسابنا، وما بقي من السنين لا يقع في اعتبارنا.. مزجت الألوان بعضها ببعض، وانتظرت اللحظة الأخيرة لأضع الفرشاة في المكان المناسب، فاللوحة قاربت على النهاية فجأة! انطفأت الشمعة.
ذابت وعم الظلام.. ومن مشهد افقي منكسر الضوء.. معتم الزوايا، بدت بقع شمسية شاردة لا تهتدي، تبرز على اللوحة شعراً وسيفاً ورقصاً وموسيقا، حينها فقط أيقنت أن النهاية في اللوحة، قد تكون البداية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* نواف يونس
نواف يونس صحفي وكاتب سوري، من مواليد عام 1950. تخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة. يكتب قصصًا قصيرة ومقالات، وعمل صحفيًا في جريدة الخليج ومجلة المسرح. كما ترأس تحرير مجلتي دبي الثقافية والشارقة الثقافية. حاز على العديد من الجوائز، وهو عضو في لجان تحكيم إماراتية وعربية للقصص القصيرة والروايات والمسرحيات. من أعماله المنشورة: "الرحيل"، "ملك ليوم واحد"، و"حلم تحت خط الصفر".
القصة محاولة للرسم بالكلمات تؤسس لأفكار نقدية حول التداخل بين الفنون، يسقط فيها الكاتب الحدث على الواقع المعاش، موظفاً الفنون القولية والبصرية في القصة، من خلال الجملة الشعرية والألوان ..، وقد ترجمت القصة إلى اللغتين الإسبانية والفرنسية.